الأربعاء، 17 نوفمبر 2010

قنبلة السودان الموقوتة: منطقة الشرق.. وبعد الموارد في الأزمة السودانية

بقلم : حسين معلوم
نقلا عن موقع دار ناشري للنشر االلالكتروني
اذا كانت الأطراف المتنازعة، في أي صراع، تسعى لإحداث تغيير من نوع ما لصالحها، إلا أن الصراعات السياسية ليست كلها من ذاك النوع الذي يستدعي أو يؤدي إلى التدخل الخارجي.. فالصراع السياسي، يمكن أن يؤدي إلى التدخل الخارجي، فقط، عندما يتحول إلى صراع أهلي مسلح؛ أما الصراعات السياسية السلمية، أو تلك التي تنجح النظم السياسية في احتوائها في أطر النظام القائم، فإنها، عادة، ما تخاض بمعزل عن تدخل القوى الخارجية، وهو (التدخل) الذي إذا حدث، فإنه يجري، فقط، في أضيق الحدود التي لا تمثل، بالضرورة، ضرراً كبيراً بالتوازنات المحلية، ولا بالأوضاع السياسية القائمة (من أمثلة ذلك، الصراع السياسي في كينيا)، الأمر الذي يخرجها من نطاق هذا الحديث عن السودان. إذ، أن هذا الأخير، السودان، أو بالأحرى: الصراع الأهلي في السودان، ينتمي إلى هذا النوع من الصراعات التي تسعى الأطراف الخارجية إلى "الدخول على الخط" فيها، من أجل مصالحها.. قطعاً.
وقطعاً، هذه، لا تؤشر سوى عن الأهمية "الجغراسية" (الجغرا سياسية)، التي يتمتع بها هذا البلد "العربي/الأفريقي".. السودان.
جغراسية السودان
والواقع، أن أهمية السودان بصفة عامة، تنبع من عديد من العوامل المتشابكة، لعل من أهمها: موقع السودان الإستراتيجي الهام، ووجود شواطئ له على البحر الأحمر، ذلك الممر الحيوي ذي الأهمية الإستراتيجية عالمياً وإقليمياً؛ فضلاً عن أن السودان يقع في منطقة القرن الأفريقي، ذات الأهمية "الجغراستية" (الجغرا ستراتيجية)، وكونها إحدى مناطق التوتر في العالم، من منظور أنها تحفل بالاضطرابات والحروب الأهلية.
هذا، وينفرد السودان، عن أي دولة أفريقية أو عربية أخرى، بأنه همزة الوصل في ما بين الوطن العربي والقارة الأفريقية، وقد ساعدته مساحته الضخمة، والتي تقدر بـ 2.5 مليون كم2، في أن يمتد ـ تقريباً ـ من خط عرض 22 درجة شمالاً، حتى خط 3 درجة شمال خط الاستواء، ليجاور حدود تسعة بلدان أفريقية، هي على التوالي: مصر من الشمال، وتشاد من الشمال والغرب، ومن الغرب أيضاً ليبيا وأفريقيا الوسطى، ومن الجنوب الغربي الكونغو الديمقراطية (زائير)، ومن الجنوب أوغندا وكينيا، ومن الشرق إثيوبيا وإريتريا..
بذلك، يجاور السودان دولتان عربيتان، هما: مصر وليبيا؛ وسبع بلدان أفريقية، منها: أوغندا والكونغو الديمقراطية، وتنبع من أراضيهما مياه النيل الاستوائية، فضلاً عن إثيوبيا وإريتريا وتبع منهما مياه النيل الموسمية.
في هذا الإطار، يشكل السودان أهمية إستراتيجية بالنسبة لمصر، لأن نهر النيل يمر عبر أراضيه، كما أن المشروعات الإستراتيجية المطلوب إقامتها لزيادة حصة مصر من المياه، أو للتغلب على الفاقد منها، تقع في الأراضي السودانية.. ولعل أوضح مثال على ذلك مشروع "قناة جونقلي" الذي توقف العمل فيه، في مرحلته الأولى (في: نوفمبر 1983)، بسبب الأوضاع الأمنية في جنوب السودان؛ وهو المشروع الذي كان مقدراً له أن يوفر ـ عند نهاية مرحلته الثانية ـ 7.5 مليار متر مكعب من المياه، هذا فضلاً عن مشروع مستنقعات مشار، وشمال وجنوب بحر الغزال، وغيرها.
ويمكن القول: أن امتداد السودان عبر نطاقه الطولي، الممتد نحو 18 درجة عرضية، يتيح تنوعاً مناخياً ونباتياً، إضافة إلى تنوع التربة والتكوينات الجيولوجية، الأمر الذي يوحي بوجود إمكانات متنوعة من المعادن المختلفة، ومن بينها النفط، الذي بات السودان مصدراً له (منذ: عام 1999)؛ وهو ينتج حالياً 205 ألف برميل في اليوم، من بينها 145 ألف برميل مخصص للتصدير، وخصوصاً من حقول وسط وجنوب البلاد بالقرب من مناطق القتال بين الحكومة السودانية وحركة قرنق..
يضاف إلى ذلك، وجود حوالي مائتي مليون فدان في السودان ضمن أخصب الأراضي الزراعية، والتي تتيح زراعة أنواع متعددة من المحاصيل والحبوب، فضلاً عن ملايين الرؤوس من الأغنام والماعز والماشية.
رغم ذلك، أو بالرغم من هذه الامكانات الهائلة، فقد عانى السودان، منذ استقلاله (في: يناير 1956)، اضطرابات ومشاكل في جزئه الجنوبي، لم يستطيع حيالها ـ رغم الحكومات العسكرية والمدنية المتوالية ـ التوصل إلى حل ناجع لها.. كما لم يقتصر التدخل في هذه المشكلة، الممتدة، على بلدان الجوار الجغرافي للسودان، بل تعداه إلى بلدان أخرى، مثل: إيران، وإسرائيل، والقوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كانت مشكلة غرب السودان (إقليم دارفور)، قد فرضت نفسها على الساحة السودانية، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات مستقبلية على هذا البلد.. فإن استمرار الاضطرابات والحرب في جنوب السودان، لفترة جاوزت عشرين عاماً، كان قد أدى، ولاشك، إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي، واستنزاف الموارد الاقتصادية، وتدهور البنية الأساسية والمرافق في الدولة، بجانب تفاقم مشكلة الاندماج الوطني، وزيادة عدد الضحايا واللاجئين (الذين وصل عددهم إلى حوالي 2 مليون قتيل، 4 ملايين لاجئ ومشرد).
هذا، فضلاً عن انعكاسات المشكلة على منطقة القرن الأفريقي وحوض نهر النيل، بما تحتويه، أصلاً، من نزاعات حدودية وحروب أهلية وتطاحن قبلي وإثني، بما يزيد من حدة المشكلة.
في هذا السياق، يبدو مستقبل هذا البلد، السودان، على المحك.. ليس، فقط، لأجل تداعيات مشكلتي الجنوب والغرب، بكل ما تحملانه من ظروف غير مواتية على "وحدة الأراضي السودانية"؛ ولكن، أيضاً، لأجل تداعيات ما يمكن أن نطلق عليه: "قنبلة السودان الموقوتة"، أي: منطقة شرق السودان، تلك التي لا ينتبه إليها أحد (من العرب عموماً، ومن البلدان العربية المجاورة للسودان على وجه الخصوص)، رغم أنها تحمل من عوامل الاشتعال، ما يجعلها على وشك الانفجار.
ولعل قولنا الأخير، هذا، يتأكد: إذا لاحظنا، من جانب، التحريض الإريتري المستمر؛ ولاحظنا، من جانب آخر، الإعلان عن التنسيق والتعاون المشترك بين متمردي دارفور، وبين منظمتي "مؤتمر البجا" و"الأسود الحرة" العاملتين في شرق السودان.
شرق السودان
شرق السودان، جغرافياً، هو تلك الرقعة التي تقع بين خطي عرض 10 ـ 22 شمالاً، وخطي طول 23 ـ 35 شرقاً. وتنقسم إلى ثلاث مناطق: أولها، تلال البحر الأحمر؛ وثانيها، السهول الوعرة القاحلة التي تمتد إلى نهر عطبرة؛ وثالثها، منطقة السهول الطينية الخصبة التي تقع جنوب نهر عطبرة، وتمتد إلى مشارف تلال الأنقسنا في منطقة الفونج، والتي يتميز الجزء المتاخم منها للحدود الإثيوبية بوجود تربة صخرية، بينما الجزء الغربي يتميز بوجود السهول الطينية الصالحة للزراعة.
وتوجد في شرق السودان "خمس" ولايات، هي: ولاية البحر الأحمر والتي تحدها شمالاً مصر، وولاية نهر النيل غرباً، وشاطئ البحر الأحمر شرقاً، وتجاورها إريتريا، وولاية كسلا جنوباً، وعاصمتها هي مدينة بورتسودان.. وتليها ولاية كسلا، والتي تحدها ولايتي الخرطوم ونهر النيل غرباً وإرتريا شرقاً، وعاصمتها مدينة كسلا.. ثم ولاية القضارف، التي تحدها ولايتا الخرطوم والجزيرة غرباً، وعاصمتها القضارف، والتي تجاورها جنوباً ولاية سنار، وعاصمتها سنجة.. وفي أقصى جنوبها تقع ولاية النيل الأزرق، وعاصمتها مدينة الدمازين، والتي تحدها من الجنوب والغرب ولاية أعالي النيل.
ومن الناحية السكانية، تضم المنطقة الشمالية لهذه الولايات جماعات مختلفة الأعراق والثقافات؛ معظمهم من قبائل البجا الحامية الأصل، وتعتبر من أكبر الوحدات السكانية في المنطقة، وتنتشر عشائرها إلى المنطقة الوسطى من شرق البلاد. وتمتد صلة البجا بالمنطقة إلى الآف الأعوام. والبجا، لفظة لا تعني، حالياً، عنصراً عرقياً بعينه، بل هو مجموع كل العناصر الموجودة في المنطقة المتحدثة اللغات البجاوية، وغيرهم ممن يعتبرون أنفسهم منهم.
ينقسم البجا إلى أربعة مجموعات رئيسة، هي: البشاريون والأمارأر والهدندوة والبنو عامر. البشاريون، ينقسمون إلى عشيرتين هما أم علي وأم باتي، ويسكنون في شمال الإقليم وما زالوا رحلاً تجتاز حركتهم حاجز الحدود السياسية للبلاد، ويمتد وجودهم إلى منطقة قوص في صعيد مصر.. بينما نجد أن عدداً كبيراً من الأمارأر قد استفاد من فرص الاستقرار التي وفرتها المشاريع الزراعية في مناطق القاش وطوكر، وتعتبر مدينة مسمار عاصمتهم الإدارية..
أما قبيلة البني عامر، فهم أقل المجموعات تأثراً بالثقافة العربية، ويتحدثون لغة التيغراي السامية، ومنهم مجموعة ثنائية اللغة تستخدم التيغراي والتبداوية، وتسكن جنوب طوكر وخور بركة وضواحي مدينة كسلا، وتمتد عشائرهم عبر الحدود إلى إريتريا.
وأكبر المجموعات البجاوية هي قبيلة الهدندوة، والتي تمتد مراحيلها إلى داخل أراضي كل من إثيوبيا وإريتريا.
وهنالك مجموعات أخرى صغيرة نسبياً مثل قبائل العبابدة في أقصى الشمال والأرتيقا والحلقنة بمنطقة كسلا والحباب في شمال شرقها.
وتعتبر منطقة شرق السودان امتداد حيوياً لقدرات البلاد الإستراتيجية، واحتياطاً لا يمكن الاستهانة به لاقتصادها.. لذلك، صارت مفصلاً رئيساً في عمليات الكر والفر، والربح والخسارة، التي استندت إليها معارك الحروب الأهلية في السودان..
فميناء بورتسودان يمثل همزة الوصل مع العالم، وبوابة التجارة الخارجية للبلاد، ومصدراً رئيساً للعملات الأجنبية.. وعلى شاطئ البحر الأحمر، يوجد ميناء بشاير لتصدير النفط، وعلى جانبه المنطقة الاقتصادية الحرة، أحد أكبر المشروعات في أفريقيا.. كما تعتبر حدود البلاد الشرقية أطول منفذ لتجارة الحدود وتصدير البضائع السودانية في كل منطقة شمال شرق أفريقيا, وعبر ولاياتها يمتد الطريق البري السريع الذي يربط الميناء بوسط البلاد (يبلغ طوله بين الخرطوم وبورتسودان 670 كيلو متراً).
ويوجد في شرق السودان، أيضاً، خزان الدمازين، إلى جانب خزان الروصيرص مصدر توليد نحو "80 بالمئة" من الطاقة الكهربائية في البلاد.
وتزخر شواطئ البحر الأحمر بإمكانيات كبيرة في مجالي الثروة السمكية والسياحة، كما توجد بالإقليم أكبر مشاريع إنتاج الحبوب الغذائية الرئيسة للسكان "85 بالمئة"، وإنتاج السمسم، الذي يشكل "28 بالمئة" من عائدات صادرات البلاد الزراعية، وثالث مشروع لإنتاج السكر، والمصنع الوحيد لإنتاج وتوزيع إطارات الناقلات في كل منطقة القرن الأفريقي.
موارد الشرق
يوجد في الإقليم الشرقي "90 بالمئة"، من مشاريع التعدين في البلاد، بجانب تمتعها بمخزون ثروات معدنية كبير. حيث تهدف الدولة في إستراتيجيتها المعتمدة، على حد تصريح الدكتور عمر محمد خير، المدير العام للهيئة السيادية المناط بها مسألة التعدين في السودان: "على استغلال المعادن ذات العائد السريع والتي لا تحتاج لبنيات تحتية ضخمة، وبالتالي تم التركيز على الذهب (والابتعاد عن الحديد)...
ومعروف منذ عهد الفراعنة ـ والحديث مايزال للمير العام ـ أن هنالك مناجم في شرق السودان، وهناك حزام ضخم يمتد من الحدود الشمالية إلى شرق النيل وحتى جنوب البلاد يمكن أن يوجد بها ذهب.. وترتكز الإستراتيجية على الذهب، وتم اختيار مناطق بعينها لمعرفتنا السابقة بها، مناطق شرق وجنوب النيل، وسوف يمتد إلى الجنوب أيضاً... فهناك مناطق واعدة مثل كبويتا وبعض الخامات على ساحل البحر الأحمر قريبة من التصدير وسهلة الاستغلال.. أيضاً، هناك بعض المعادن في منطقة دلتا بركة وخام الكروم في منطقة الأنقسنا".
هذه الإمكانات التعدينية الهائلة بوجه عام، تتأكد إذا لاحظنا: أن مؤسسة التعدين السودانية، كانت قد حددت أولوياتها وخطتها للإسراع باستغلال معادن شرق السودان..
وعلى لسان المدير العام للمؤسسة، محمد عباس الهندي، نقلاً عن محمد سليمان محمد في كتابه: "السودان.. حروب الموارد والهوية، 2000"، فإن: "خمسون موقعاً بمنطقة البحر الأحمر تزخر بعروق الذهب، كما أن أكثر من 60 موقعاً توجد في منطقة جبيت بشرق السودان، 20 موقعاً آخر بمنطقة الروصيرص والكرمك وقيسان وهي مناطق حدودية مع إثيوبيا.. وأن [حسب الخطة سيرتفع]، الإنتاج من خام الكروم إلى 700 ألف طن, عالي الجودة بالمواصفات العالمية..
أيضاً، فإن الدراسات ـ وما يزال الكلام للمدير العام ـ أثبتت أن: "المخزون السوداني من الحديد يصل إلى مليار طن يمكن استغلالها، يوجد منها 22 مليون طن في منطقة البحر الأحمر.. كما أن وجود الرمال السوداء في منطقة ترنكتات على شاطئ البحر الأحمر، والدراسات، ثبت أن كل 12 مليون طن، من هذه الرمال تحتوي على 600 ألف طن من معدن الألمنيت، و110 ألف طن من الزركون، و45 ألف طن من معدن الروتيلي، وهي معادن تستخدم في صناعة أجسام الطائرات والبوهيات عالية الجودة".
كما قامت الحكومة السودانية بتوقيع عقد بالمشاركة مع شركة فرنسية، وأسست بموجبه شركة "أرياب"، التي باشرت التنقيب عن الذهب (منذ: عام 1991)، في منطقة جبيت في شرق السودان. وقد شرعت الشركة الفرنسية "أرياب"، مباشرة، في عمليات استخراج وتصدير إنتاجها إلى الخارج.
وبنهاية العام 1992، بلغت كميات الذهب المصدرة حوالي 1.5 طن، مع اعتماد خطة لتصدير 3 أطنان سنوياً و 25 ألف طن من الكروم.. وفي نهاية العام 1994، تمكنت شركة "أرياب"، من تصدير 65 كيلو جراماً من الذهب أسبوعياً من مناجمها بمنطقة جبيت، مع استمرار عمليات التنقيب في مناطق الكرمك وقيسان وحسب ما كانت تسمح به الظروف الأمنية في المنطقة.
وفي الأسبوع الثاني من أغسطس 1995، ارتفع عدد الشركات المنقبة عن الذهب في ولاية النيل الأزرق إلى ثلاث شركات، بعد انضمام شركتين: الأولى، "المجموعة التكاملية للاستثمارات الأفريقية المحدودة"، وهي رغم اسمها شركة سورية للتنقيب عن الذهب في منطقة الكرمك؛ والثانية، "شركة أعمال التعدين"، للتنقيب عنه في منطقة جنوب شرق الروصيرص.
وبنهاية العام 1996, أكد وزير المال الدكتور عبد الوهاب عثمان في المجلس الوطني (البرلمان)، أن النفط والذهب سيدرجان للمرة الأولى في باب عائدات موازنة الدولة للعام 1997، وحدد أن جملة العائدات 704 مليون دولار، ستكون 208 مليون منها من عائدات المنتجات المحلية؛ "20 بالمئة" منها عائدات من استخراج الذهب.
وقد بلغت الطاقة الإنتاجية لشركة "أرياب"، في نهاية العام 1998، ما يعادل 5600 كيلو جرام من الذهب، بنسبة نقاوة عالية تفوق "90 بالمئة"، وفي الوقت نفسه توسعت نطاق عملياتها التنقيبية لتغطي مساحة 60 ألف كيلو متر مربع (تعادل مساحة دولة سيراليون)، تمتد من حلفا شمالاً إلى أبو حمد غرباً وحتى الجبال الشرقية بالبحر الأحمر.
وبذلك، يكون قطاع الذهب قد شهد نشاطاً مكثفاً منذ منتصف عقد التسعينات، بسبب التوقعات بوجود كميات كبيرة منه، الأمر الذي أدى إلى توقيع عدد من الاتفاقيات مع عدد من المستثمرين الأجانب.. وفي بدايات العام 2000، ذكر تقرير لوزارة التجارة أن صادرات السودان من معادن شرق السودان يتوقع أن تصل إلى 700 مليون دولار خلال العام، نصيب الذهب منها نحو 100 مليون دولار.
الحرب الأهلية
دخل شرق السودان إلى معادلة الحرب الأهلية في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي. فقد تمكنت "حركة تحرير شعب السودان "، التي تحول اسمها في ما بعد إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، وذراعها العسكري هو "الجيش الشعبي لتحرير السودان" (جون قرنق)، من مد تحالفاتها لتستقطب قبائل منطقة شمال شرق أعالي النيل وجنوب الفونج، وكان احتلالها، بقيادة سيلفا كير (في: 11 أكتوبر 1987)، لمدينة الكرمك الحدودية (ولاية النيل الأزرق)، نقطة تحول أخرى في مسار الحرب الأهلية الثانية (التي بدأت في: عام 1983).. بذلك استطاعت "الحركة"، وللمرة الأولى أن تهدد محطات توليد الكهرباء الرئيسة في البلاد وخزانات المياه والمشاريع الزراعية ومناجم التعدين، على امتداد المنطقة إلى أواسط السودان.
وأصبحت محاور الصراع المسلح تدور في ستة جبهات: ثلاث منها في الجنوب، وهي جبهة بحر الغزال: وتضم مسارح عملياتها جزءاً من غرب منطقة أعالي النيل العسكرية ومركزها مدينة رمبيك؛ والجبهة الغربية: وهي تشمل أواسط وغرب الاستوائية ومركزها بين مدينتي كايا وياي؛ والجبهة الشرقية: وهي تغطي مناطق شرق الاستوائية وجزءاً من جنوب ولاية جونقلي وقيادتها في مدينة نمولي الحدودية.
بينما شملت مسارح العمليات في شمال السودان جبهة جنوب كردفان ومركزها كادقلي؛ وجبهة النيل الأزرق ومركزها مدينة الكرمك؛ والجبهة الشرقية ـ منذ مطلع العام 1996، ـ وهي المنطقة التي تشمل كل الحدود "الإريترية ـ السودانية" (310 كيلو متر)، وجزءاً من الحدود مع إثيوبيا، وبها محور همشكوريب وهو الجزء الأكبر لمسارح العمليات، وتمتد شمالاً إلى منطقة قرورة على شاطئ البحر الأحمر.
وقد كان للمتغيرات السياسية في الخرطوم والتي بدأت تتفاعل منذ منتصف العام 1986، باستلام الصادق المهدي مقاليد الحكم، وعدم وضوح إستراتيجيات حكومته في التعامل مع الحرب الأهلية، إلى جانب إصرار "الحركة" على تعزيز وجودها شمال خط العرض 12، دور في تصعيدها للحرب، وفتح الباب أمام مزيد من التدخل الخارجي فيها، وتزايد حدة العنف والعنف المضاد.
ولم تتغير موازين الأحداث إلا بعد قيام ثورة الانقاذ (في: يونيو 1989)، واعتمادها للحل العسكري إستراتيجية للوصول إلى السلام، واتخاذها عدداً من القرارات السياسية التي أطرت خطواتها نحو المفاوضات مع "حركة التمرد" من دون شروط مسبقة.
واستطاعت حكومة الخرطوم توظيف التغيير الذي حدث بانهيار نظام منقستو في إثيوبيا بترتيب حملة كبيرة (في: مارس 1992)، استعادت بها الحكومة مدينة فشلا الاستراتيجية، وذلك بالتفافها من داخل الأراضي الإثيوبية على قوات "الحركة"، وتمكنها بعد ذلك من التأثير على مسارح العمليات في ولاية النيل الأزرق بمنطقة جنوب شرق السودان.
القنبلة الموقوتة
ومن العوامل الرئيسة التي حدت من تطوير آفاق العمل العسكري في شرق السودان، تأرجح توازنات العلاقات السودانية مع إثيوبيا وإريتريا، بالإضافة إلى أن طبيعة وبيئة المنطقة وفصولها المناخية تحد من تحول أي حركة معارضة مسلحة في شرق السودان إلى تشكيل عسكري فاعل، يمكن أن يتحول إلى جسر لنقل قوات تدخل زحفاً إلى العاصمة الخرطوم.
وفضلاً عن انفجار الخلافات بين الفصائل المسلحة من وقت إلى آخر، فقد أصبح عجز المعارضة المسلحة في توفير بدائل من الخدمات والإمكانيات في المناطق التي سيطرت عليها، سبباً كافياً لتفضيلها الانسحاب من بعضها، واستعادة قوات الحكومة السيطرة عليها مرة أخرى دون مقاومة.
وعلى هذه الخلفية، خلفية المنازعات الصامتة والصارخة، بجانب عوالم أخرى، صعدت من الحساسية وضاعفت من الشكوك وعدم الثقة التي تعاملت بها أطراف المعارضة في شرق السودان مع مسألة "الخيار العسكري"، وعدم حماسها له والسعي خلف الكواليس لاحتوائه.. يمكن القول: أن منطقة شرق السودان أصبحت بمثابة القنبلة الموقوتة، التي يسهل انفجارها في ظل كافة الظروف والملابسات التي تمر بها الساحة السودانية راهناً؛ خاصة إذا استطاعت القوى الدولية و/أو الإقليمية "الدخول على الخط" في هذه المنطقة.
وعبارة "الدخول على الخط"، لا تعني، فقط، التدخل المباشر، أو غير المباشر، من جانب هذه الوى لصالح طرف أو آخر في شرق السودان.. ولكن، أيضاً، تعني: أن المسار الذي يتم دفع المفاوضات الخاصة بجنوب السودان أو غربه، يشكل "دخولاً على خط" ما يمكن أن يحدث في منطقة شرق السودان، على الأقل من منظور "مطالبة الأطراف الشرقية التعامل بالمثل"..
وهنا، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، هو: إذا كانت الموارد، التي تحدثنا عنها هنا في ما يخص الشرق، وتحدثنا عنها في مقالات سابقة في ما يخص الجنوب والغرب، هي السبب الرئيس في أطول حرب أهلية عرفتها القارة الأفريقية في تاريخها، أي: الحرب الأهلية السودانية.. فأين، إذن، موقع المسألة النفطية(؟!).
المسألة النفطية
ظهرت بوادر الاكتشافات النفطية في عدد من الإعلانات الأولية عن حقول مناطق المجلد (جنوب كردفان) ومنطقة بانتيو (أعالي النيل) في عام 1979، وفي إبريل (نيسان) 1981، أعلنت شركة شيفرون الأمريكية أنها أكتشفت وجوده بكميات تجارية في حقل الوحدة بالقطاع الجنوبي الغربي لمناطق استكشافها، وقدر احتياطي النفط، الذي يمكن استخراجه من حقل كايكانق وحقل الوحدة وحقل الهجليج المجاور له، رسمياً، بنحو ملياري برميل، يمكن أن يعود على البلاد بنحو 50 مليار دولار، أو يغطي احتياجات الطاقة المتوقعة لعقدين من الزمان.
بيد أن هذا، وإن كان يوضح وضعية النفط كمورد هام ضمن الموارد السودانية، فإن ما يؤكد على حيوية هذا المورد في ما يخص الحرب الأهلية في هذا البلد هو الفقرة الواردة في تقرير جون سي دانفورث (مبعوث الرئيس الأمريكي إلى السودان)، وهو التقرير المقدم (في: 26 أبريل 2002)، وكان ضمن الأسس التي ارتكز عليها قانون الكونغرس الأمريكي، "قانون سلام السودان"..
يقول دانفورث في تقريره: "إن اكتشاف احتياطي نفطي مهم، بالأخص في الجنوب، وبدء الإنتاج الجدي له في عام 1999، أعاد تكوين شكل الحرب الأهلية في السودان (يملك السودان ـ والكلام ما يزال لـ "دانفورث" ـ احتياطي نفطي يتجاوز بليون برميل، مع احتمالات وجود احتياطي إضافي يتراوح بين بليون وأربعة بلايين برميل)؛ ولا يمكن التوصل إلى تسوية دائمة للحرب في السودان ما لم تتم المعالجة الفعالة للمسألة النفطية".
هذا هو أحد أهم النصوص الواردة في تقرير جون سي دانفورث، حول "السلام في السودان".. وهو يغني عن أي تعليق حول: البعد النفطي في الأزمة السودانية.



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عاصفةالحسم

بسم الله الرحمن الرحيم عاصفةالحسم شعر / ادريس نور محمد على * تاقت النفوس لأرض الطهر .......والنقاء الحرم الشريف قبلة النور ومحط الرجاء م...