نقلا عن موقع المجلس العلمي
بقلم/ أحمد زكريا
مصر أم الأدب:
مهما روج المرجفون من أراجيف كاذبة وانتحل المبطلون ما ليس لهم من حق، ونطق الرويبضة، وقدم من حقه التأخر، وكرم من حقه الإهانة، فمهما ظهر من قمني أو فرج فودة أو نصر أبو زيد أو نوال سعداوي أو...... فستظل مصر قبلة الأدب والثقافة والحضارة والعلم، رغم كيد الحاقدين والمغرضين.
فقد شهدت مصر في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري نهضة أدبية وفكرية، شملت كل فنون الأدب وألوان الفكر، وازدانت الحياة بكوكبة من فحول الشعراء، وكبار الكُتّاب، وأئمة اللغة والبيان، وأساطين العلم والفكر، وقادة الرأي والتوجيه، ودعاة التربية والإصلاح، وجهابذة الفقه والقانون، ونجوم الصحافة والأدب، وأجتمع لها من هؤلاء الأعلام ما لم يجتمع لها في قرون طويلة، منذ أن أصبحت مصر إسلامية الوجه، عربية اللسان.
وكان أحمد حسن الزيات واحدا ً من هذه الكوكبة العظيمة التي تبوأت مكان الصدارة في تاريخ الثقافة العربية، وَلَج إلى هذه الكوكبة ببيانه الصافي، وأسلوبه الرائق، ولغته السمحة، وبإصداره مجلة "الرسالة" ذات الأثر العظيم في الثقافية العربية.
مولد الزيات ونشأته:
استقبلت قرية "كفر دميرة القديم" التابعة لمركز "طلخا" بمحافظة "الدقهلية" بمصر وليدها في (26 من جمادى الآخرة 1303 هـ = 2 من إبريل 1885م)، ونشأ في أسرة متوسطة الحال، تعمل بالزراعة، وكان لوالده نزوع أدبي، وتمتّعت أمه بلباقة الحديث وبراعة الحكي والمسامرة.
تلقى الصغير تعليمه الأوّلي في كُتّاب القرية، وهو لا يزال غضًا طريًا في الخامسة من عمره، فتعلم القراءة والكتابة، وأتمّ حفظ القرآن الكريم وتجويده، ثم أرسله أبوه إلى أحد العلماء في قرية مجاورة، فتلقى على يديه القراءات السبع وأتقنها في سنة واحدة.
الزيات في الأزهر:
التحق الزيات بالجامع الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكانت الدراسة فيه مفتوحة لا تتقيد بسن معينة، أو تلزم التلاميذ بالتقيد بشيخ محدد، وإنما كان الطلاب يتنقلون بين الأساتذة، يفاضلون بينهم، حتى إذا آنس أحدهم ميلا ً إلى شيخ بعينه؛ لزمه وانصرف إليه.
وظل الزيات بالأزهر عشر سنوات، تلقى في أثنائها علوم الشريعة والعربية، غير أن نفسه كانت تميل إلى الأدب، بسبب النشأة والتكوين، فانصرف إليه كليةً، وتعلق بدروس الشيخ "سيد علي المرصفي" الذي كان يدرّس الأدب في الأزهر، ويشرح لتلاميذه "حماسة" أبى تمام، وكتاب "الكامل" للمبرّد، كما حضر شرح المعلقات للشيخ محمد محمود الشنقيطي، أحد أعلام اللغة البارزين.
وفي هذه الأيام اتصل بطه حسين، ومحمود حسن الزناتي، وربطهم حب الأدب برباط المودة والصداقة، فكانوا يترددون على دروس المرصفي الذي فتح لهم آفاقًا واسعة في الأدب والنقد، وأثّر فيهم جميعا ً تأثيرا ً قويا ً، وكانوا يقضون أوقاتا ً طويلة في "دار الكتب المصرية" لمطالعة عيون الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء.
أهم الوظائف التي تقلدها الزيات:
لم يستكمل الثلاثة دراستهم بالجامع الأزهر، والتحقوا بالجامعة الأهلية التي فتحت أبوابها للدراسة في سنة (1329 هـ = 1908م) وكانت الدراسة بها مساء ً، وتتلمذوا على نفر من كبار المستشرقين الذين استعانت بهم الجامعة للتدريس بها، من أمثال: نللينو، وجويدي، وليتمان.
وكان الزيات في أثناء فترة التحاقه بالجامعة يعمل مدرسًا بالمدارس الأهلية، وفي الوقت نفسه يدرس اللغة الفرنسية التي أعانته كثيرًا في دراسته الجامعية حتى تمكن من نيل إجازة الليسانس سنة (1331هـ = 1912م).
التقى الزيات وهو يعمل بالتدريس في المدرسة الإعدادية الثانوية في سنة (1333هـ = 1914م) بعدد من زملائه، كانوا بعد ذلك قادة الفكر والرأي في مصر، مثل: العقاد، والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد.
وقد أتيح له في هذه المدرسة أن يسهم في العمل الوطني ومقاومة المحتل الغاصب، فكان يكتب المنشورات السرية التي كانت تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة في أثناء ثورة 1919م، وكانت تلك المدارس من طلائع المدارس التي أشعلت الثورة وقادت المظاهرات.
وظل الزيات يعمل بالمدارس الأهلية حتى اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسًا للقسم العربي بها في سنة ( 1341 هـ= 1922م)، وفي أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وكانت الدراسة بها ليلا ً، ومدتها ثلاث سنوات، أمضى منها سنتين في مصر، وقضى الثالثة في فرنسا حيث حصل على ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة (1344هـ = 1925).
وظل بالجامعة الأمريكية حتى اختير أستاذًا في دار المعلمين العالية ببغداد (1348 هـ = 1929م) ومكث هناك ثلاث سنوات، حفلت بالعمل الجاد، والاختلاط بالأدباء والشعراء العراقيين، وإلقاء المحاضرات.
بعد عودة الزيات من بغداد سنة (1351هـ = 1933م) هجر التدريس، وتفرغ للصحافة والتأليف، وفكّر في إنشاء مجلة للأدب الراقي والفن الرفيع، بعد أن وجد أن الساحة قد خلت باختفاء "السياسة" الأسبوعية التي كانت ملتقى كبار الأدباء والمفكرين، وذات أثر واضح في الحياة الثقافية بمصر، وسانده في عزمه أصدقاؤه من لجنة التأليف والترجمة والنشر.
وفي (18 من رمضان 1351 هـ= 15 من يناير 1933) ولدت مجلة الرسالة، قشيبة الثياب، قسيمة الوجه، عربية الملامح، تحمل زادًا صالحًا، وفكرًا غنيًا، واستقبل الناس الوليد الجديد كما يستقبلون أولادهم بلهفة وشوق؛ حيث كانت أعدادها تنفد على الفور.
وكانت المجلة ذات ثقافة أدبية خاصة، تعتمد على وصل الشرق بالغرب، وربط القديم بالحديث، وبعث الروح الإسلامية، والدعوة إلى وحدة الأمة، وإحياء التراث، ومحاربة الخرافات، والعناية بالأسلوب الرائق والكلمة الأنيقة، والجملة البليغة.
وقد نجحت الرسالة في فترة صدورها، فيما أعلنت عنه من أهداف وغايات، فكانت سفيرًا للكلمة الطيبة في العالم العربي، الذي تنافس أدباؤه وكُتّابه في الكتابة لها، وصار منتهى أمل كل كاتب أن يرى مقالة له ممهورة باسمه على صفحاتها، فإذا ما نُشرت له مقالة أو بحث صار كمن أجازته الجامعة بشهادة مرموقة؛ فقد أصبح من كُتّاب الرسالة.
وأفسحت المجلة صفحاتها لأعلام الفكر والثقافة والأدب من أمثال العقاد، وأحمد أمين، ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد زكي، ومصطفي عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي الذي أظلت المجلة مقالته الخالدة التي جُمعت وصارت "وحي القلم".
وربت الرسالة جيلا ً من الكتاب والشعراء في مصر والعالم العربي، فتخرج فيها: محمود محمد شاكر، ومحمد عبد الله عنان، وعلي الطنطاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي، وغيرهم، وظلت المجلة تؤدي رسالتها حتى احتجبت في (29 من جمادى الآخرة 1372هـ= 15 من فبراير 1953م).
الزيات قامة سامقة في الأدب العربي:
يعد الزيات صاحب مدرسة في الكتابة، وأحد أربعة عُرف كل منهم بأسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير، والثلاثة الآخرون هم: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد، ويوازن أحد الباحثين بينه وبين العقاد وطه حسين، فيقول: "والزيات أقوى الثلاثة أسلوبًا، وأوضحهم بيانًا، وأوجزهم مقالة، وأنقاهم لفظًا، يُعْنى بالكلمة المهندسة، والجملة المزدوجة، وعند الكثرة الكاثرة هو أكتب كتابنا في عصرنا".
وعالج الزيات في أدبه كثيرا ً من الموضوعات السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين الدين والتضامن الاجتماعي، وحارب المجالس الوطنية المزيّفة، وقاوم المحتل، وعبّأ الشعب لمقاومته، ورسم سبل الخلاص منه.. يقول الزيات:
"إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل، وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار".
تراث الزيات الأدبي:
وقد أخرج الزيات للمكتبة العربية عددا ً من الكتب، أقدمها: كتابه "تاريخ الأدب العربي"، وصدر سنة (1335 هـ= 1916م)، ثم أصدر "في أصول الأدب" سنة (1352هـ= 1934م)، و"دفاع عن البلاعة" سنة (1364 هـ= 1945م) وهو كتاب في النقد الأسلوبي، قصره الزيات على بيان السمات المثلى للأسلوب العربي.
ثم جمع الزيات مقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلته، وأصدرها في كتابه "وحي الرسالة" في أربعة مجلدات، أودعها تجاربه ومشاهداته وانفعالاته وآراءه في الأدب والحياة والاجتماع والسياسة، بالإضافة إلى ما صوّره بقلمه من تراجم لشخصيات سياسية وأدبية.
ولم يكن التأليف وكتابة المقالة الأدبية هما ميدانه، بل كان له دور في الترجمة الراقية، ذات البيان البديع، فترجم من الفرنسية "آلام فرتر" لجوته سنة (1339هـ = 1920م) ورواية "روفائيل" للأديب الفرنسي لامرتين، وذلك في أثناء إقامته بفرنسا سنة (1344هـ= 1925م).
أهم الهيئات العلمية التي شارك فيها:
عضو بمجمع اللغة العربية عام 1948 .
عضو بالمجمع العلمي السوري والمجمع العلمي العراقي.
عضو بجمعية الأدباء و لجنة التأليف والترجمة والنشر.
عضو بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
وعاش الزيات بعيدًا عن الانتماءات الحزبية، فلم ينضم إلى حزب سياسي يدافع عنه، مثل العقاد وهيكل وطه حسين، ولم يدخل في خصومه مع أحد، ولم يشترك في المعارك الأدبية التي حفلت بها الحياة الثقافية في مصر؛ فقد كان هادئ النفس، وديع الخلق، ليّن الجانب، سليم الصدر.
أهم الأوسمة التي حصل عليها الزيات:
جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، عام 1961م.
وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى.
وسام النيل من الدرجة الأولى.
وفاته:-
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في صباح الأربعاء 16 من ربيع الأول 1388 من الهجرة النبوية الموافق 12 من مايو 1968بعد حياة عامرة من الكفاح الأدبي، سطر الزيات لنفسها خلالها مجدا خالدا وسط العظماء
مقتطفات من ادب احمد حسن الزيات
(1)
يقول الزيات في مقالة له [ القرية أمس واليوم ] في المجلد الأول من سفره الثمين [ وحي الرسالة ] ص 60 متحدثًا عن ما يلقاه الفلاح المسكين من عنتٍ ومشقة ويذهب جهده هباءً منثورًا وأنه يعمل فلا يرى من عمله إلا العنت والمشقة:
لا تزال القرية كما كانت في القرون الخوالي أكواخًا متلاصقة غرقى في المناقع والدِّمن , لا تبصر الشمس , ولاتنشق الهواء , ولا تعرف النظافة, تكومت في قاعها أرواث البهائم وزرق الدجاج ؛وتراكم في سطحها حطب الوقود وعلف الماشية ؛ وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع في هذه الحضار المشتركة. ثم راض الفلاح نفسه مرغمًا على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المزرية حتى مات في حسه إدارك الجمال , وتفه في ذوقه طعم الوجود .
إلى أن يقول :
إن الفلاح المسكين الساذج يسمع بالوزارت تسقط وتقوم , وبالأحزاب تختصم وتحتكم , وبالمجالس تنتثر وتنتظم , وبالدواوين تفتح وتغلق , وبالأموال تجبى وتنفق , فيسائل نفسه سؤال الجاهل : إلى من هذه الأعمال والأموال إذا لم يكن لي من ثمارها نصيب ؟
لقد اشترينا بأقوات الريف أُبهة العاصمة , وبنينا بأنقاض القرية قصور المدينة , وغسلنا بعرق الفلاح أقدام المترفين , فكنا كمن حفر الجدول , وخطط الحقول , ونثر البذور , وشيد الأهراء (1) ثم طَّمر في سبيل ذلك فوهة الينبوع . انتهى
ــــ
الأهراء : جمع هرى وهو مخزن القمح .
(2)
في مقالته الموسومة بـ[في الربيع ] يقول عن الربيع وأجواءه الساحرة :
ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال وبالحاجة إلى التجميل , فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض وعبير الخمائل ومرح الطيور , ويحتشد في دور الملاهي وصدور الشوارع , فيخلع على الوجود وضاءة الحسن , وعلى الحياة رونق السعادة!
وأجمل شيء في ربيع القاهرة أصاله وأماسيه!
ففي هذين الوقتين تزدهر شوارع القاهرة الحديثة بزهرات شتى الألوان من بنات الإنسان , فتملأ الجو عطرًا والعيون سحرًا والقلوب فتنة !
وهنالك على أفاريز الطرق ومشارف القهوات , تقف أبصار الكهول والشيوخ حائرة مبهورة تلسع بالنظر الرغيب هذا الحسن المصون , وبين النظرة والنظرة عبرة جافة تصَّعد أسى على شباب ذاهب لا يرجع وجمال رائع لا يُنال ! انتهى
من كتاب وحي الرسالة
صادفت خلاء فشغلته ، وخللاً فسدته ، وعبثاً فحاولت أن تصد عنه بإيقاظ النخوة في الرؤوس ، والكرامة في النفوس ، والرجولة في النشء .
ثم حركت في الملكات الموهوبة ساكن الشوق لإلى الإنتاج فأبدعت ، وأهابت بالقوى الأدبية المتفرقة فتجمعت . ثم سفرت بين الأدباء في كل قطر من أقطار العروبة ، فعرفت بعضاً من بعض ، وأطلعت كلاً على عمل كل . ثم قادت كتائب الفكر والبيان في ميادين الإصلاح الأدبي والاجتماعي ...
ولو كانت الرسالة اليوم بسبيل أن تكشف عن قلبها ، وأن تحدث عن نعمة ربها ، لذكرت فيما تذكر بلاءها العظيم في إنهاض الأدب ، وتوحيد العرب ، وتخريج طبقة من الأدباء ، وتثقيف أمة القراء ، بل مجاهدتها السلطان الباغي ، والفقر المهلك ..
***
هبي يا رياح الخريف .. هبي .. هبي واقلعي ذلك النبات الدنيء الذي يتطفل على أشجار الوادي فيتغذى على أصولها ، ويتسلق على فروعها ، حتى إذا أدرك الهواء والضياء والرفعة ، التف بعساليجه وكلاليبه على أعاليها التفاف الأفعوان ، فيكظم أنفاسها فلا تنسم ، ويشل حركتها فلا تميس ، ثم يقول مشيراً بأطرافه الرخوة إلى كل عابر ، انظر ألست أنا الأمير وهذا الشجر هو الفلاح ؟ وإذا لم يسخر الله لي الشجر فكيف أنمو ؟ وإذا لم يسخر الفلاح للأمير فكيف يسمو ؟1
هبي يارياح الخريف هبي .. هبي واقشعي هذا السحاب المتراكم الذي ارتفع ارتفاع الدخان وانتفش انتفاش العهن ، فحجب الشمس ، وحصر الأفق ، وأحر الأرض ، ثم لا نجد من ورائه مطراً يدفع الجدب ، ولا ظلاً يمنع الحرور ..
-------------
المصدر : من مقال يارياح الخريف هبي / وحي الرسالة
***
عندنا في دارنا الريفية عصبة من كلاب الحراسة مختلفة الأسنان والألوان والجنس تعيش في حال مدنية عجيبة : في الليل تتعاون على النباح وتتساعد في الهجوم ، فإذا لمح أحدها سواد إنسان أو ريح ذئب استنجبها جميعاً واستعداها جميعاً ، لا تسأله ماذا نبح ولماذا عدا .
وفي النهار تربض متقلبلة في ظِلال شجرة ، أو ترقد - متجاورة على قش الرز ، تتهارش حيناً ، وتتفلى حيناً والصغير يعمد إلى الكبير فيعضه وهوهادئ مستسلم ، والضعيف يجروء على القوي فيركبه وهو وادع مستكين .
ثم هذبناها فتهذبت ، ودربناها على النظام فتدربيت وألقى في روعها أن تأخذ بطرف مدنية الكلاب الأوربية فأحسنت لثم الفم وأتقنت ملق العين وأجادت بصبصة الذيل ثم أسرفت في الرقة وأغرقت في الظرف حتى ليكاد كل كلب منها أن يقول : ضعوا على رأسي قبعة ..
تلك حال كلابنا ما دامت خارجة من سلطان البطن عاليه وسافله ، فإذا قدم إليه الكلاب وجبة الغداء ، أو عثر أحدها على عظمة في حواشي الفناء انقلب التزاحم قسوة ، والتعاطف جفوة ، والتهارش حرباً ، والتفلية عضاً ، والمدنية وحشية ، والإيثار أنانية . فالأم تنكر ولدها ، والأخ لا يعرف أخاه ، والطعام الوافر المختص والمشترك تتنازعه المخالب الحداد والأنياب العضل ، فيخرج بالخطف من فم إلى فم ، وينتقل باللقف من يد إلى يد .
والكلاب الضعاف والجراء الصغار يقفن منكمشات على بعد ، يسألن بالحق ويتوسلن بالقرابة فلا يرين إلا النظر الشرز ولا يسمعن إلا الزئير المهدد ، حتى إذا غاب الطعام في الأجواف ، ولعقت الألسن آثاره على الخراكطيم ، أشبلت الأم على ولدها وأقبل الذكر على أنثاه وعطف الأخ على أخيه ، وعادت إلى الكلاب حياتها المدنية من مرح الهراش وحنان التفلية وألفة النباح !
-----------
المصدر : من مقال القرية والفلاح /وحي الرسالة ، الجزء الثاني
شكرا على هده الاضافة
ردحذف